مقهوي الشيخ زايد




هات قهويني ما يزال صدى هذه العبارة يتردد في مخيلة المقهوي إسماعيل البلوشي على الرغم من مرور أربع سنوات على رحيل قائلها. وتغرورق عينا الرجل الذي اكتست لحيته باللون الأبيض كلما استفزته الذكريات لمخدومه الذي قضى في كنفه أكثر من ثلاثة عقود، لكن "إنا لله وإنا إليه راجعون"، يقولها قبل أن ينهض للوضوء، يصارع العبرات، ليصلي ركعتين يدعو فيهما بالرحمة والخير لـ"زايد الخير".

لم يحلم ذلك الشاب اليافع بأن يصبح مقهوي المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيب الله ثراه"، عندما قدم من العين إلى أبوظبي فور قيام دولة الاتحاد وتسلم الشيخ زايد مقاليد الحكم، ليعمل في قصر الشيخ الوالد. يذكر البلوشي أول لقاء "قال بمجرد أن نظر إلى الفنجان وقبل أن يرشف منه: تعرف كيف تعمل القهوة؟ أنا قهوتي غير الربع، وما أحبها بحب الهال أبد".

التقط الشاب رغبة الشيخ، وحظي بعدها بفترة قصيرة بإطراء الشيخ زايد الذي يردده إسماعيل بفخر "هات قهويني، ترى قهوتك تدق في الراس".

يقول البلوشي، وهو أب لـ11 من الأبناء، 3 ذكور و8 إناث، "القهوة غيّرت حياتي، وقادتني إلى أجمل ما حدث لي، فقد أرشدني -رحمه الله- وعلمني كل ما يتعلق بالقهوة العربية، بدءاً من اختيار نوعية البن ومن ثم تنقيته وتنظيفه وحمسه على الفحم أو الحطب وهو الأفضل، ثم طحنه وغليه لمدة 20 دقيقة"، ويستدرك "قبل كل ذلك، أعطاني معياراً مختلفاً عما اعتاده الناس في عمل القهوة. فكل فنجان بن يلزمه لترين ماء".

ويسترسل البلوشي في حديثه عن القهوة، وارتباطها بالإنسان العربي منذ القدم، حتى باتت معشوقة إنسان الخليج، لا يخلو من دلالها وعبقها الزكي مجلس ولا بيت. يقول "أنتقي من السوق الشعبي أجود أنواع القهوة المستوردة من البرازيل، وأختار المنكهات والمطيّبات كالزعفران والقرنفل المسمار والشمطري وماء الورد، لتمنح القهوة رائحة عطرة ونكهة شهية. وأعدّها وفق عدة مراحل. فبعد إشعال النار استخدم المعاميل وهي المحماس، المبرادة، النجر، المنفاخ، الليف، البق، والدلال، أحمس القهوة، وأحركها لمدة نصف ساعة، ثم أضعها بالمبرادة لتبرد، قبل أن أطحنها في النجر، وأضعها في الدلة مع الماء بعد إضافة المطيبات، وأتركها تفور قليلاً، بعد ذلك أصفيها بمصفاة ناعمة، وأضعها جاهزة على المجمر لحين الطلب".

ويردف البلوشي "كان الشيخ زايد رحمه الله عارفاً بعادات العرب في أصول تقديم القهوة، من مسك الدلة باليد اليسرى، والفناجين باليمنى، وهز الفنجان كناية عن الاكتفاء والشكر، وقرع الفناجين حين الدخول إلى المجلس للفت الانتباه، ودوران دلة القهوة من اليمين إلى اليسار، ومقدار القهوة في الفنجان الذي يجب ألا يزيد عن الثلث ولا ينقص كثيراً، وإلا اعتبر إساءة للضيف".

ويزيد "كان رحمه الله يطلب تقديم القهوة للضيف بداية، على الرغم من أن العرب تقدم القهوة لكبير القوم"، يسكت قليلاً ثم يواصل "لم تعرف العرب مثيلاً له في كرمه وطيبته وتواضعه".

ويعدل البلوشي جلسته لدى تذكره جو الأعياد وذكرى اليوم الوطني. يقول "كنا نقوم بحمس كميات كبيرة من القهوة قبل يوم أو يومين، ونملأ الدلال صبيحة الثاني من ديسمبر، ونستعين بمقهويين آخرين، نظراً لكثرة الوافدين على مجلس الشيخ الوالد للتهنئة، من حكام الإمارات وشيوخها ووجهائها ومواطنيها، فضلاً عن الرؤساء العرب والأجانب الزائرين للبلاد للتهنئة، وكذلك السفراء والدبلوماسيين، والوافدين العرب والأجانب الذين يأتون للتهنئة، حينها كانت مئات الفناجين تلمع وتهتز في الأيادي كما لو أنها ترقص طرباً في فرح".

ملح الذكريات

"كان رحمه الله لا يحب القهوة بحب الهال، فقد نصحه الأطباء أن الهال يؤذي الشرايين ويسد مجراها"، يصف البلوشي قهوة الشيخ زايد المفضلة بقوله "كان البن البرازيلي المفضل لديه، ويحب إضافة الزعفران وماء الورد وقليل من قرنفل المسمار و الشمطري". ويبتسم البلوشي مستذكراً ترديد الشيخ زايد رحمه الله لأبيات شعر من قصيدة للشاعر النبطي محمد عبد الله القاضي التي يقول فيها:

مع زعفران والشمطري إلي انساق

ريحه مع العنبر على الطاق مطبوق

وفي حديثه عن أسفاره مع "والدنا زايد"، يقول "كنت دائم السفر معه، وكان رحمه الله يحتسي القهوة في الطائرة، ويطلبها مراراً. وكنت أصحب معي عدة القهوة كاملة، وإذا كان السفر طويل المدة، آخذ مؤونة تكفي لأسبوعين، فإذا طال السفر، ألجأ إلى أحد أمرين، إما الاتصال بسفارة دولتنا في البلد الذي نزوره، أو جلب مزيد من القهوة من الإمارات".

ويبتسم البلوشي عندما يستذكر مواقف بعض الزعماء مع القهوة في حضرة الشيخ زايد، من جهل بعضهم بأصول شرب القهوة، أو إعجابهم بمذاقها، لدرجة أن "العديد منهم كانوا بمجرد دخولهم إلى مجلس الشيخ زايد يطلبون قهوة زايد التي بدون حب الهال".

ويصمت قليلاً ثم يتابع "منذ أربع سنين ما عاد للقهوة المذاق ذاته"، على الرغم من أن الفناجين هي الفناجين والقهوة هي القهوة وعلى الرغم من أنه يصرّ على نشر عبق القهوة التي أحبها زايد رحمه الله صباح كل يوم، حيث بقي مقهوي الشيوخ، بتوصية من أم الإمارات سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية، التي اهتمت لأمره كما اهتمت لأمر جميع الذين عملوا في حضرة الشيخ زايد، "فما أزال عند أنجال زايد أنعم بكرمهم، وأرى فيهم حفظهم الله امتداداً له رحمه الله".

فنجانان أو ثلاثة

شرب القهوة عند الشيخ زايد "طيب الله ثراه" طقوس لا يغيرها سوى شهر رمضان وأعباء السياسة. يسرد البلوشي قائلاً "من عاداته أنه كان بعد صلاة الفجر يتقهوى فنجانين وبالكثير ثلاثة، ولا يعاود شربها حتى ساعة الظهيرة، وقد يشرب قبل ذلك فنجاناً إكراماً لخاطر أحد ضيوفه. وكان يحب التمر مع القهوة، وأحياناً كان يتناولها عصراً مع قرص تمر، وهو تمر معجون مع فتات الخبز الطازج، لكنه كان أحياناً يكتفي بالقهوة، التي يندر أن يمر عليه يوم دون احتساء فنجان منها"، ويسترسل "كان رحمه الله يطلب الحليب مع الحلبة وقليل من العسل، ويذكر لنا فوائدهما. لم يكن يحب الشاي، ويفضل عليه الزعتر لفائدته". أما في رمضان، فسحوره رحمه الله كوب من الماء ورشفة قهوة، وفطوره أربع تمرات وكوب ماء وبعدها فنجان من القهوة، أما في أسفاره الخارجية، فكانت تختلف مواعيد شربه للقهوة بحسب المسؤوليات والالتزامات.

الفنجان الكبير

ويشير البلوشي إلى أن الوالد زايد رحمه الله، كان يشرب القهوة من فنجان كبير الحجم، بل كان يوصيه وغيره من المقهوين أن تكون أيضاً الفناجين المقدمة للضيوف كبيرة، لأن تلك الفناجين بطرازها وحجمها كانت سائدة في زمن الآباء والأجداد، وكان رحمه الله يصرّ على تكريس التقاليد القديمة حفاظاً عليها كعادات اجتماعية يفترض احترامها.. إذ كان يقول "ما أودّر عادات الزمان الأول".

الكاتب : روعة يونس - أبوظبي
[/P]
موقع صوت التراث - الأحد 27 / 06 / 2010 - 04:22 مساءً     زيارات 46520     تعليقات 31
عرض الردود
أضف تعليقك